فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



القول الثاني- أن في الآية الكريمة مضافًا محذوفًا، تقديره: وما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلبهم أن تأتيهم سنة الأولين، أو يأتيهم العذاب قبلًا.
والآيات الدالة على طلبهم الهلاك والعذاب عن عناداص وتعنتًا كثيرة جدًا، كقوله عن قوم شعيب: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السماء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الشعراء: 187]، وكقوله عن قوم هود: {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأحقاف: 22]، وكقوله عن قوم صالح: {وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ المرسلين} [الأعراف: 77] وكقوله عن قوم لوط: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [العنكبوت: 29] وكقوله عن قوم نوح: {قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [هود: 32].
فهذه الآيات وأمثالها في القرآن- ذكر الله فيها شيئًا من سنة الأولين: أنهم يطلبون تعجيل العذاب عنادًا وتعنتًا. وبين تعالى أنه أهلك جميعهم بعذاب مستأصل، كإهلاك قوم نوح بالطوفان، وقوم صالح بالصيحة، وقوم شعيب بعذاب يوم الظلة، وقوم هود بالرح العقيم، وقوم لوط بجعل عالى قراهم سافلها. وإرسال حجارة السجيل عليهم، كما هو مفصل في الآيات القرآنية.
وبين في آيات كثيرة: أن كفار هذه الأمة كمشركي قريش سالوا العذاب كما سأله من قبلهم، كقوله: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، وقوله: {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} [ص: 16] وأصل القط، كتاب الملك الذي فيه الجائزة، وصار يطلق على النصيب: فمعنى {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} أي نصيبنا المقدر لنا ن العذاب الذي تزعم وقوعه بنا إن لم نصدقك ونؤمن بك، كالنصيب الذي يقدره الملك في القط الذي هو كتاب الجائزة، ومنه قول الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ** بغبطته يعطي القطوط ويأفق

وقوله: يأفق أي يفضل بعضًا على بعض في العطاء. والآيات بمثل ذلك كثيرة. والقول الأول أظهر عندي، لأن مالا تقدير فيه أولى مما فيه تقدير إلا بحجة الرجوع إليها تثبت المحذوف المقدر. والله تعالى أعلم. وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب وجه الجمع بين قوله تعالى هنا: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءَهُمُ الهدى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} [الكهف: 55] الآية وبين قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 94] بما حاصله باختصار: أن المانع المذكور في سورة: الإسراء مانع عادي يجوز تخلفه، لأن استغرابهم بعث رسول من البشر مانع عادي يجوز تخلفه لإمكان أن يستغرب الكافر بعث رسول من البشر ثم يؤمن به مع ذلك الاستغراب. فالحصر في قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} حصر في المانع العادي. واما لحصر في قوله هنا {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءَهُمُ الهدى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلًا} فهو حصر في المانع الحقيقي، لأن إرادته جل وعلا عدم إيمانهم، وحكمه عليهم بذلك، وقضاءه به مانع حقيقي من وقوع غيره.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلًا} قرأه الكوفيون: وهم عاصم وحمزة والكسائي: {قبلًا} بضم القاف والباء. وقرأه الأربعة الباقون من السبعة: وهم نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: {قبلًا} بكسر القاف وفتح الباء. أما على قراءة الكوفيين فقوله: {قبلًا} بضمتين جمع قبيل. والفعيل إذا كان اسمًا يجمع على فعل كسرير وسرر، وطريق وطرق، وحصير وحصر، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:
وفعل لاس رباعي بمد ** قد زيد قبل لام اعلالًا فقد

ما لم يضاعف في الأعم ذو الألف

إلخ.
وعلى هذا، فمعنى الآية {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلًا} أي أنوا مختلفة، يتلو بعضها بعضًا. وعلى قراءة من قرأوا {قبلًا} كعنب، فمعناه عيانًا، أي أو يأتيهم العذاب عيانًا. وقال مجاهد رحمه الله {قبلًا} أي فجأة. والتحقيق: أن معناه عيانًا وأصله من المقابلة، لأن المتقابلين بعاين كل واحد منهما الآخر.
وذكر أو عبيدك أن معنى القراءتين واحد، وأن معناهما عيانًا، وأصله من المقابلة. وانتصاب {قبلًا} على الحال على كلتا القراءتين. وهو على القولين المذكروين في معنى {قبلًا} إن قدرنا أنه بمعنى عيانًا، فهو مصدر منكر حال كما قدمنا مرارًا. وعلى أنه جمع قبيل: فهو اسم جامد مؤول بمشتق، لأنه في تأويل: أو يأتيهم العذاب في حال كوه أنواعًا وضروبًا مختلفة. والمصدر المنسبك من {أن} وصلتها في قوله: {أن يؤمنوا} في محل نصب. لأنه مفعول {منع} الثاني، والمنسبك من {أّنْ} وصلتها في قوله: {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} في محل رفع، لأنه فاعل {منع} لأن الاستثناء مفرغ، وما قبل {إلا} عامل فيما بعدها، فصار التقدير: منع الناس الإيمان إتيان سنة الأولين، على حد قوله في الخلاصة:
وإن يفرغ سابق إلا لما ** بعد يكن كما لو إلا عدما

والاستغفار في قوله: {وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} هو طلب المغفرة منه جل وعلا لجميع الذنوب السالفة بالإنابة إليه، والندم على ما فات، والعزم المصمم على عدم العود إلى الذنب. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)}.
رأى: الرؤية: وقوع البصر على المرئيّ، والرؤية هنا مِمّن سيُعذّب في النار، وقد تكون الرؤية من النار التي ستعذبهم؛ لأنها تراهم وتنتظرهم وتناديهم، كما قال تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] أي: هاأنا ذا أنتظرهم ومستعدة لملاقاتهم؟
والمجرمون: الذين ارتكبوا الجرائم، وعلى رأسها الكفر بالله. إذن: فالرؤية هنا متُبَادلة: المعذِّب والمعذَّب، كلاهما يرى الآخر ويعرفه.
وقوله تعالى: {فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] الظن هنا يُراد منه اليقين. أي: أيقنوا أنهم واقعون فيها، كما جاء في قول الحق سبحانه: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ} [البقرة: 46].
أي: يوقنون.
{وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53] أي: في حين أن بينهما مَوْبقًا، وأيضًا لا يجدون مفرًّا يفرون منه، أو ملجأ يلجؤون إليه، أو مكانًا ينصرفون إليه بعيدًا عن النار، فالمَوْبِق موجود، والمصْرِف مفقود. ثم يقول تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ}.
سبق أن تكلمنا عن تصريف الآيات، وقلنا: إن التصريف معناه تحويل الشيء إلى أشياء متعددة، كما يصرّف الله الرياح مثلًا، فلا تأتي من ناحية واحدة، بل تأتي مرة من هنا، ومرة من هناك، كذلك صَرّف الله الأمثال. أي: أتى بأحوال متعددة وصُور شتى منها.
والحق سبحانه يضرب الأمثال كأنه يقرع بها آذان الناس لأمر قد يكون غائبًا عنهم، فيمثله بأمر واضح لهم مُحَسٍّ ليتفهموه تفهّمًا دقيقًا.
وما دام أن الحق سبحانه صرّف في هذا القرآن من كل مثَل، فلا عُذْر لمن لم يفهم، فالقرآن قد جاء على وجوه شتّى ليُعلم الناس على اختلاف أفهامهم ومواهبهم؛ لذلك ترى الأمي يسمعه فيأخذ منه على قدر فَهْمه، والنصف مثقف يسمعه فيأخذ منه على قدر ثقافته، والعالم الكبير يأخذ منه على قدر علمه ويجد فيه بُغْيته، بل وأكثر من ذلك، فالمتخصص في أيِّ علم من العلوم يجد في كتاب الله أدقّ التفاصيل؛ لأن الحق سبحانه بيَّن فيه كل شيء.
ثم يقول تعالى: {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54] أي: كثير الخصومة والتنازع في الرأي، والجدل: هو المحاورة ومحاولة كل طرف أن يثبت صِدْق مذهبه وكلامه، والجدل إما أن يكون بالباطل لتثبيت حجة الأهواء وتراوغ لتبرر مذهبك ولو خطأً، وهذا هو الجَدل المعيب القائم على الأهواء. وإما أن يكون الجدل بالحق وهو الجدل البنّاء الذي يستهدف الوصول إلى الحقيقة، وهذا بعيد كل البعد عن التحيّز للهوى أو الأغراض.
ولما تحدَّث القرآن الكريم عن الجدل قال تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46].
وقال: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] والنبي صلى الله عليه وسلم لما مرَّ على عليٍّ وفاطمة رضي الله عنهما ليوقظهما لصلاة الفجر، وطرق عليهما الباب مرة بعد أخرى، ويبدو أنهما كانا مستغرقيْن في نوم عميق، فنادى عليهما صلى الله عليه وسلم: «ألا تصلون؟» فردَّ الإمام علي قائلًا: يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله، إن شاء أطلقها وإن شاء أمسكها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «{وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]».
لأن الإنسان له أهواء متعددة وخواطر متباينة، ويحاول أنْ يُدلّل على صحة أهوائه وخواطره بالحجة، فيقارع الحق ويغالط ويراوغ. ولو دققتَ في رأيه لوجدتَ له هوىً يسعى إليه ويميل إلى تحقيقه، وترى ذلك واضحًا إذا اخترتَ أحد الطرق تسلكه أنت وصاحبك مثلًا لأنه أسهلها وأقربها، فإذا به يقترح عليك طريقًا آخر، ويحاول إقناعك به بكل السُّبل، والحقيقة أن له غرضًا في نفسه وهوىً يريد الوصول إليه.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءَهُمُ الهدى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ}.
ما الذي منعهم أن يؤمنوا بعد أن أنزل عليهم القرآن، وصرّفنا فيه من الآيات والأمثال، بعد أن جاءهم مطابقًا لكل الأحوال؟
وفي آية أخرى، أوضح الحق سبحانه سبب إعراضهم عن الإيمان، فقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السماء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء: 89-93].
فكُلُّ هذه التعنّتات وهذا العناد هو الذي حال بينهم وبين الإيمان بالله، والحق سبحانه وتعالى حينما يأتي بآية طلبها القوم، ثم لم يؤمنوا بها يُهلكهم؛ لذلك قال بعدها: {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} [الكهف: 55] فهذه هي الآية التي تنتظرهم: أن تأتيهم سُنَّة الله في إهلاك مَنْ كذَّب الرسل.
فقبل الإسلام، كانت السماء هي التي تتدخل لنُصْرة العقيدة، فكانت تدكُّ عليهم قُراهم ومساكنهم، فالرسول عليه الدعوة والبلاغ، ولم يكن من مهمته دعوة الناس إلى الحرب والجهاد في سبيل نَشْر دعوته، إلا أمة محمد فقد أَمِنها على أن تحمل السيف لتُؤدِّب الخارجين عن طاعة الله.
وقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} [الكهف: 55] أي: على ما فات من المهاترات والتعنُّتات والاستكبار على قبول الحق {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} [الكهف: 55] أي: بهلاك المكذبين {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلًا} [الكهف: 55] أي مُقابِلًا لهم، وعيانًا أمامهم، أو {قُبُلًا} جمع قبيل، وهي ألوان متعددة من العذاب، كما قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47] أي: لهم عذاب غير النار، فألوان العذاب لهم متعددة. اهـ.